حقوق الإنسان
كثر الحديث سابقاً ويكثر الحديث الآن عن حقوق الإنسان، ولتناول هذا الموضوع علينا أن نفهم أموراً أساسية في طبيعة الإنسان، وأنا منذ نحو أربعين سنة أتحدث عن ابني آدم الذين ورد ذكرهما في القرآن، وأنا لما أتحدث عن القرآن لا أتحدث بسذاجة وإيمان بالغيب بل إن مشكلة حقوق الإنسان تتعلق بعالم الشهادة. والقرآن يحول دليل عالم الغيب إلى عالم الشهادة. حتى الإيمان باليوم الآخر والإيمان بالله تعالى والقرآن إذا نظرنا إليه وفق ما حدث من زيادة في الخلق ورؤية لعواقب الأمور يتبين لنا على غير ما فهمه السابقون. وأنا أقول دائماً أن الكون بحسب القرآن ليس خلق وانتهى؛ وإنما لا يزال يخلق ويزاد في خلقه، والزيادة فيه إلى الأنفع والأفضل. القرآن يقول : ((يزيد في الخلق ما يشاء)) ويقول: ((ويخلق ما لا تعلمون)) ويقول: ((ولتعلمن نبأه بعد حين)) حتى أنه لما ذكر وسائل النقل من الدواب ((والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون)) لم يكن المفسرون الكبار ولا الأولياء الصالحون ليتصوروا ماذا سيخلق الله، ونحن نرى بأعيننا ماذا خلق الله أو صنعه الإنسان من مخلوقات الله بما أعطى الإنسان من قدرة على كشف الأسباب والنتائج. ((ويخلق ما لا تعملون)) ليس انتهى وإنما هو مفتوح وسيرى الذين من بعدنا ما يخطر في بالنا نحن الآن. وهناك في القرآن تحديات مستقبلية من أن هذا النور مهما عارضه المعارضون يقول الله: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) ويقول ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون)) ويقول: ((ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)).
إن القرآن حينما يتحدث عن خلق الإنسان واستخلافه في الأرض ويتحدث عن اعتراض الملائكة على هذا الإنسان لأنه سيفسد في الأرض ويسفك الدماء رد الله عليهم بقوله : ((إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها)) إن علم الله في الإنسان لم يتحقق بعد لأن الإنسان لا يزال يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكن صرنا نحن نرى في هذا العصر إمكانية أن يتعلم الإنسان كيف سيخرج من الفساد في الأرض وسفك الدماء. وسيحقق الإنسان علم الله في الإنسان، والناس الآن يرون أشياء وإن كانوا لا يحسنون فهمها وتفسيرها؛ فمثلا القنبلة النووية، منذ ابتكار الإنسان هذه القنبلة لم تستخدم إلا في حرب واحدة ولأول مرة في التاريخ البشري ولآخر مرة أيضاَ. ومن ذلك الوقت فإن الكبار لا يستطيعون أن يتقاتلوا فبطل الحرب بمعنى من المعاني حيث بلغت إلى إمكان تدمير الأرض والبشرية والناس إذا بلغوا إلى هذا سوف يدمرون أنفسهم ،بل سيجدون الحل وهو جاهز، وهو التفاهم وقبول قانون المساواة والخروج من الاستكبار في الأرض.
هذا الموضوع وإن كان لا يطرح إلا أنه واضح جداً. لقد مضى على تفجير القنبلة النووية أكثر من خمسين عاماً ولم تستخدم ولا مرة أخرى . إن الحرب قد ماتت ولكن لم يفطن لها كل الناس والكبار لا يريدون أن يكشفوا هذا للناس لأنهم يخوفون الناس الذين يؤمنون بأن الحرب يمكن أن تحل المشكلات. إنني في ألم شديد حيث الناس والمفكرون لم يفطنوا بوضوح إلى هذا. بعض الناس يقولون هناك متغيرات ولكن لا يوضحون هذه المتغيرات، ومن أكبر المتغيرات إنهاء الحرب نظرياً وإن كان الناس يمارسون شيئاً فات أوانه وبشكل فج. الحرب لا تحل مشكلة الكبار لأنهم لا يستطيعون أن يتقاتلوا، فيسقط من سقط منهم بدون حرب، مثل الاتحاد السوفييتي الذي كان عنده من الأسلحة ما يدمر الأرض كلها مرات عديدة، ولم يأت عدو ليسقطه وإنما سقط من ذاته من الداخل مع كل القوى التي يملكها تصدع الاتحاد الكبير، أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم.
الآن ينجح من نجح من الكبار بدون حرب. والعجيب أن الذي نجح بدون حرب هو اليابان البلد الذي ألقيت عليه القنبلة النووية، البلد الوحيد الأول والآخر الذي ألقيت عليه القنبلة النووية واستسلم بدون قيد أو شرط، وخلال جيل واحد عاد اليابان المنهزم قوة عظمى في العالم بدون قنابل نووية ولا جيوش ولا صواريخ، أحد الدول السبع الصناعية في العالم.
هذه آيات وأدلة واضحة ولكن الناس بعضهم عن جهالة وبعضهم عن خبث يكتمون هذه الحقيقة التي صارت واقعية، وقد أصبح تقاتل الكبار منذ خمسين سنة بعد الحرب الثانية يتم بالنيابة، بدءا من كوريا إلى فيتنام إلى المنطقة العربية وكل أنحاء العالم؛ فإذا تقاتل الصاغر كما فعل العرب والمسلمون في حربي الخليج الأولى التي دامت ثماني سنوات أطول من الحرب العالمية، والثانية وإن لم تدم طويلاً إلا أن عقابيلها لا تزال تعرقل العالم العربي. إذن الصغار إذا تقاتلوا فإن الكبار سينصرون من انتصاره لصالحهم وعلى هذا نستطيع أن نقول الحرب انتهت كلياً حيث لا تؤدي دوراً لنصر أحد، بل خسائر فقط. وبالنسبة لعالم الصغار هذا الشيء صار واضحاً منذ مئتي سنة منذ الأسلحة النارية والمدافع والدبابات والطائرات.
إن العالم الإسلامي لم يكن حاضراً في التطورات الأخيرة منذ خمسة قرون من معرفة أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، وهناك تهدم العالم القديم، وداروا حول الأرض. وتلك الأيام نداولها بين الناس. ومن ذلك الوقت انتقلت القيادة البشرية إلى الشمال وتغيرت الأحوال والأوضاع، ولم يعد يمكن أن يتداول الحكم بين الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وقد راود هذا الشيء محمد علي باشا ولكن أعيد إلى مصر وقيل له هذا مكانك ولن تخرج منه، ومن ذاك الوقت فقد العالم الإسلامي التحكم في مصيره. ما معنى هذا كله، وما علاقة ذلك بحقوق الإنسان أو قدرات الإنسان أو ما طبيعة الإنسان؟
في الواقع ينبغي أن ندرس هذا الموضوع بتفصيل وتأسيس، على أساس معرفة صحيحة لا أوهام ولا خوارق وإنما سنن يمكن معرفتها، وبالعلم يمكن للإنسان أن يغير موقفه، وهذا مرتبط بفهم طبيعة الإنسان وكيفية صناعته أي تحويله إلى أحسن تقويم أو أسفل سافلين.
الإنسان إنما يتميز عن بقية الكائنات الحية أنه يخرج من بطن أمه عنده استعدادات وإمكانات قابلة للتحقيق وقابلة للإعاقة، بينما كل الكائنات الحية تخرج من بطون أمهاتها وهي تعلم كيف تسلك في الحياة دون تعليم، ودون لغة. إن الجهاز العصبي عند الحيوان لا يقوم بدور ربط الأسباب بالنتائج كالإنسان، ولا خزن المعلومات، وهذا شيء أساسي إن لم نعرف هذه الأمور لا يمكن أن نعرف الإنسان ولا كيف نحوله إلى أحسن تقويم أو نحوله إلى أسفل سافلين، وهذا شيء واضح جداً في سورة الشمس التي أخطأ الناس جميعاً في يوم من الأيام في تفسير حركة الشمس وكان من الصعب أن يفهم الناس الذين لا يعرفون طرف الأرض ويرونها مركز الكون أن يصدقوا أن الأرض هباءة كونية تدور حول الشمس وليست مركز الكون . ولو كان هذا الهوى والوهم الخادع صحيحاً لترتب عليه فساد الكون يقول الله: ((لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض)).
في سورة الشمس ـ الشمس التي كانت واضحة وخفية أشد الوضوح وأشد الخفاء ـ في هذه السورة التي اسمها سورة الشمس حديث عن النفس الإنسانية بشكل موجز ولكن عميق وواضح واضح أشد الوضوح وعميق أشد العمق إلى درجة خفاء التام. يقول الله في سورة الشمس عن النفس الإنسانية ((ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها كذبت ثمود بطغواها)) أي أن ثمود عينة من الذين كذبوا بطبيعة هذا الإنسان وكيفية التعامل معه، لما يقول الله ((ونفس وما سواها)) أي سواها تسوية عجيبة مدهشة نفخ الله في الإنسان من روحه، وأنشأه خلقاً آخر واستخلفه في الأرض بل يقول شيئاً عجيباً وهو يخاطب الإنسان، يقول الله ((وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) ما هذا الإنسان هذا الخلق الذي كرمه وقال عنه ولقد كرمنا بني آدم؟ هذا ما شرحه الله في سورة الشمس حين قال ((ونفس وما سواها)) ثم قال ((ألهمها فجورها وتقواها)) إلى هنا هذا كله من عمل الله، إمكانات مودعة في الإنسان وحده من بين الخلائق، لهذا استحق أن يسجد لهذا الإنسان الكون ويتسخر له وتسجد الملائكة وأن من لا يسجد لهذا المكرم المنفوخ فيه من روح الله يطرد من الكون مع اللعنة والدحور. ويقول الله بعد هذه التسوية للإنسان وإلهامه الفجور والتقوى يقول: إن تحويله إلى هذا أو إلى ذاك لا يكون إلا بجهد الإنسان وبصنع الإنسان وبسعي الإنسان، ((وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)) لهذا قال ((قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)) إن تحويل الإنسان إلى الفجور أو التقوى ليس من الله، وإنما من الإنسان، الله ألهم القدرتين ولكن التحويل فمن مسؤولية الإنسان ومن وظائفه.
إن هذا الإنسان هو مالك مفاتيح التسخير. فتحولت الكهرباء من صاعقة إلى أنفع شيء لخدمة الإنسان، وربطت البشر جميعاً معاً بسرعة الضوء، حديثاً، ومشاهدة، وإبلاغاً للمعلومة. فإذا كانت الصاعقة تحولت بقدرة الإنسان التسخيرية إلى هذه الخدمة العجيبة السريعة، فما أعظم إمكانيات هذا الإنسان. إنه لاحتقار شديد أن نقول عنه أنه سيظل يفسد في الأرض ويسفك الدماء. إنه لا يزال في مرحلة الطفولة. فكما الإنسان يمر بمرحلة العجز عن تنظيف نفسه سنتين أو ثلاث ويبقى طفلاً ومراهقاً ولكن سيبلغ الرشد ويدخل إلى عالم التسخير وتزكية النفس ويخرج من الفساد في الأرض وسفك الدماء، بل سيبلغ هذا الإنسان إلى درجة يمكن أن ينظر إلى ذكر أخطاء الإنسان وإفساده كالنظر إلى الذي يأكل لحم أخيه ميتاً، سيتحول الجهل بإمكانات الإنسان والتعلق بأخطائه إلى ما يشبه الاشمئزاز الذي يمكن أن يحصل للإنسان حين يرى إنسانً يأكل لحم أخيه الإنسان وهو ميت. يصير الحديث عن الإنسان بالسوء ـ وبلغة القرآن ((ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)).
إذا رأينا سيئة من سيئات الإنسان علينا أن نلوم أنفسنا كيف تركنا هذا يتحول إلى سيئ إلى إنسان مدسى، وهو قابل أن يكون مزكى. لا بد من فهم الإنسان وإمكاناته. وأنا حين أطول في المقدمة لأن الفكر الذي لا يبنى على أساس متين لا يمكن أن يثبت. الناس دائماً يسعون إلى الأنفع والأرشد، كيف يحول الشيء إلى نافع؟ إن قانون الوجود في زيادة دائمة، وإلى الأنفع والأرشد، لأن القانون الذي يحكم الوجود أن الزبد يذهب جفاءً ويمكث في الأرض ما ينفع الناس، كل قانونُ تسخيرٍ إلى الأنفع سيبقى وينسخ الأقل نفعاً، يقول الله ((ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)). الناس الآن يفكرون في استخدام الطاقة أنفع استخدام وأرشده. استخدام الطاقة بشكل أنفع ترشيد، وكذلك ترشيد استخدام الماء، وترشيد تزكية الإنسان وتربيته الذي هو الرشد الأكبر، والاقتصاديون يقولون إن أعظم ثروة هو الإنسان حين نعرف كيف نرشده، وهنا نقترب من مشكلة ترشيد الإنسان، ونريد أن ندخل مع شعورنا أننا ما وفينا الإنسان حقه في إظهار طبيعته وإمكاناته وكرامته.
في القرآن آية يقول عنها رسول الله إنها أعظم آية في كتاب الله، آية الكرسي، التي هي في تعظيم الله وتنزيهه، وبعد هذه الآية مباشرة آية الرشد التي هي أعظم تكريم للإنسان خليفة الله في الكون، والمنفوخ فيه من روحه، روح المعرفة والعلم والتسخير، تقول آية الرشد ((لا إكراه في الدين ـ قد تبين الرشد من الغي ـ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ـ فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها)).
ما معنى لا إكراه في الدين؟
معنى هذا أن أفضل استخدام للإنسان لا يكون بإكراهه. لهذا دين الله لا إكراه فيه، والإنسان بإقناعه وبكشف العلم له وكشف قانون التسخير له يقدم نفسه وماله من دون إكراه وبقناعة، وهذا ما جاء به الأنبياء جميعاً، لا إكراه في الدين، ودين الله هو الفهم الصحيح للإنسان، والكون، والإنسان المكرم عند الله، والمسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً. وهذا الإنسان يتقدم إلى الفهم، والفهم يرشّد سلوكه، والعلم الصحيح ينتج العمل الصالح، والعكس صحيح.
والإنسان يعطي على الإقناع ما لا يعطي على الإكراه، ولا يعطي الإنسان بإكراهه إلا أقل ما يمكن، وإذا تمكن من الانتقام سينتقم، ولكن بإقناعه وتعليمه سيقدم لك ماله ونفسه وهو راض منشرح. هذا ما جاء به الأنبياء جميعاً. ولكن رسول الإسلام طبقه علمياً من نقطة الصفر إلى تكون مجتمع الرشد الذي لا إكراه فيه. لهذا دين الإسلام لا إكراه فيه ((لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) فإن اللاإكراه هو الرشد، والإكراه هو الغي، وهو الطاغوت، لأن الطاغوت هو الذي يعتمد على وسائل الإكراه في فرض الإيديولوجيات (الأديان). مع أن الدين الذي يأتي بالإكراه لا يكون ديناً ولا الكفر الذي يأتي بالإكراه يصير كفراً، فإذا كان لاإكراه في الدين فمن باب أولى أن لا يكون في السياسة إكراه، لهذا سمي الخلفاء الراشدون بالراشدين؛ لأنهم لم يأتوا بالإكراه. وكما لاإكراه في الدين، ولا إكراه في السياسة، كذلك لا إكراه في التربية. وكان الإنسان خلال التاريخ كله كان يتعامل مع الإنسان بالإكراه في الدين وفي السياسة وفي التربية وكانت الأمم تقتل وترجم من يخرج عن دينها، ولهذا قال آزر لإبراهيم ((أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا)) وقال فتية أهل الكهف عن قومهم ((إنهم إن يظهروا علكم يرجوكم أو يعيدوكم في ملتم ولن تفلحوا إذن أبدا)). وبحث هذا طويل، وكذلك الأمر في السياسة ،كانت بالقوة والإكراه وإلى يومنا هذا بالقوة والإكراه، وإلا فما معنى حق الفيتو في أكبر مؤسسة عالمية إن لم يكن إكراهاً بالقوة فالقوي له حق الفيتو. إنه مناقض لحقوق الإنسان إلا إذا كنت تنتمي إلى الحضارة الغربية فيمكن أن تعطي لنفسك هذا الامتياز، وهذا هو الشرك الذي يحبط جميع الأعمال عند الأنبياء. الرسول (ص) خاتم النبيين جاء بكلمة ((السواء)) وفسر القرآن كلمة السواء بقوله أن ((لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله)) أي أن الناس متساوون، أما الشريعة ـ شريعة الله ـ فهو العدل بين الناس ((وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)) أي أن الشرع، أساسه العدل، أن يطبق على ابنة رسول الله كما يطبق على أية امرأة في الصحراء، لا امتيازات، لهذا كان سبب هلاك الأمم أنهم إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. هذه هو الشرك الذي يحبط جميع الأعمال ويهلك كل الأمم التي لا تعدل بين الناس. ونحن علينا أن نعود لنرى كيف نفذ الأنبياء الفكرة التي جاؤوا بها، وسيرة محمد (ص) واضحة من الصفر من يوم أن نزل عليه ((إقرأ)) وهو في غار حراء إلى أن نزل عليه في حجة الوداع في عرفات وهو يودع الناس والعالم ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)) وقال في ذلك اليوم ألا لا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.
إن محمداً لم يطالب بحقوقه في الدعوة، وحتى لما جاءه عمه يقول له لا تكلفنا ما لانطيق قال لعمه: (لن أدع هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه) وظل يدعو ويؤذى هو وأصحابه فيصبر، والله يقول عن الأنبياء جميعاً في القرآن أنهم قالوا لقومهم ((ولنصبرنّ على ما آذيتمونا)) وكان (ص) يمر على أصحابه يعذبون فيقول صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة. وقتل ياسر وزوجه سمية تحت التعذيب، ولم يقل الرسول لابنهما عمار خذ بثأر أبيك وأمك، وكان ينزل عليهم القرآن فيقول لهم ((كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة)). والصلاة أعظم شعيرة وأعظم واجب على الإنسان وأعظم مظاهرة لإعلان الرأي والموقف، ونحن إذا ضيعنا معنى الصلاة فليس معنى هذا أن الصلاة لا معنى لها.
لقد سمعت منذ بضع سنوات في إذاعة لندن أن تركيا سرحت أكثر من ثلاثين من كبار الضباط من الجيش؛ لأنهم يصلون، ومنذ أيام قليلة سمعت أن فريقاً لكرة القدم لما فازوا في المباراة صلى الفريق الفائز ركعتين شكراً؛ فعوقبوا بطردهم من أن يكونوا فريقاً رياضياً كما طرد الضباط من الجيش. والقرآن حين يقول في أول سورة نزلت في القرآن سورة العلق يقول في آخر السورة ((أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى..)) وختم السورة بقوله تعالى: ((..كلا لا تطعه واسجد واقترب)). هذا هو إعلان واجبات الإنسان لا مطالبة الإنسان بحقوقه في حرية الرأي، وحرية العقيدة، واختيار الدين بدون إكراه، وباقتناع. إن بلالاً رضي الله عنه كان عبداً مملوكاً أجنبياً عن مكة، يباع ويشترى بالمال، لا عشيرة له في مكة ولكن لم يقل مادَخْلي أنا فيما يتنازع فيه قريش ومحمد، مادخلي في هذا النبأ الذي يختلفون فيه، وإنما قال أنا أشهد أن ما يقوله محمد (ص) حق، وما تقولونه أنتم يا قريش خطأ وإن شئتم أن تقتلوني على ذلك افعلوا ما شئتم. إنه كان عبداً مملوكاً بكل الأعراف، ولكن كان يشعر أنه يمكن أن يقول للحق، هذا حق، وللباطل هذا باطل. هذه هي شهادة أن لا إله إلا الله. في هذه الأثناء كان ينزل على المسلمين القرآن ويقرؤونه في صلواتهم جهراً، يحفظون دستورهم ويعلنونه. إقرؤوا في سورة ياسين إن شئتم قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، يقول القرآن إنهم تنازعوا؛ ((وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون، وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون... إني إذن لفي ضلال مبين، إني آمنت بربكم فاسمعون، قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)).
وتذكروا في سورة المؤمن لما يقول الله ((وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد. وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)). إن حوار الرجل المؤمن في القرآن طويل وجميل. هذا من أخبار الأولين قبل أربعة آلاف من السنين ولكن آيات الله في التاريخ تتكرر ((ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلاً)).
إذا كان في قصة الرجل الذي جاء من أقصى المدينة آية، وفي مؤمن آل فرعون أية وفي كل أخبار الأنبياء آية من قصهم الله علينا ومن لم يقصصهم؛ فإن في العصر الحاضر آيات منها ما حدث في إيران في ربع القرن الماضي الذي لا نزال نعيش أحداثه إلى الآن. إن الإيرانيين لم يطالبوا بحقوقهم وإنما أدوا واجباتهم لما كان الشاه يصدر منع التجول، ويقول الخميني للشعب الإيراني كونوا في الشوارع فتكون النساء في الشوارع قبل الرجال، وفي يوم واحد خرج الناس نساء ورجالاً وهم قد لبسوا الأكفان يتحدون جنود الشاه المدعم من قبل أمريكا في ذلك الوقت بكل الأسلحة؛ خرجوا في مظاهرة، قتل في هذه المظاهرة الواحدة فضلاً عن غيرها من المظاهرات خمسة آلاف رجل وستمئة امرأة من غير أن يضرب أحد منهم بيده بحجر ولا عصى، بل قدموا الورود للجنود إنهم كفوا أيديهم وأقاموا الصلاة، قتل منهم في مظاهرة واحدة ذلك العدد الكبير من الرجال والنساء ولم يقتل جندي واحد من جنود الشاه ولا السافاك. لقد قتل الجنود المتظاهرين بالمروحيات والرشاشات من السماء والأرض. ما حصل أن المتظاهرين انتصروا بصدورهم العارية على الجنود المدججين بالسلاح واضطر الشاه أن ينسحب. ولم يقتلوا جندياً واحداً ولم يدافع أحد منهم عن نفسه، وحدثني أحدهم أن جندياً قتل شاباً من المتظاهرين فتقدم إليه شيخ وفتح صدره وقال للجندي: اقتلني أنا، أنا كبير السن وهذا الذي قتلته شاب كان يمكن أن ينفع إيران. فدهش الجندي ولم يدر كيف يواجه الموقف فقال للشيخ: ماذا تأمرني. قال له الشيخ: ارم سلاحك وامش معنا . هكذا طرد الشاه وهكذا رجع الخميني واستقبله الناس كما استقبل المسلمون رسول الله من غير أني يقتل من المشركين رجلاً واحداً، هكذا يكون صناعة المجتمع الراشد. إن الإيرانيين لم يطالبوا بحقوق الإنسان في الانتخابات إنهم أدوا واجباتهم فنزل عليهم من السماء الديمقراطية، والجمهورية، والانتخابات النزيهة، وتبادل السلطة، وكل هذه الأشياء التي نطالب بها ولا يتحقق شيء منها لا في العالم العربي كله، ولا في العالم الإسلامي.
انظروا إلى الجزائر ماذا صار لانتخاباتهم، وكم قتل من الناس نساء وأطفالاً ورجالاً، ذبحوا ذبحاً ولايزالون من أكثر من عشر سنوات. دفعوا ضحايا ولكن الأطراف المتنازعة كلهم يؤمنون بالعنف. النجاح ليس بالعنف النجاح بالإقناع. انظروا إلى الانتخابات الأخيرة في إيران حيث انتخب خاتمي للمرة الثانية، وأخذ وحده من الأصوات 80% ، وكيف المعارضون اعترفوا وقال علي خامنئي أنه لاشرعية خارج إرادة جمهور الأمة. إن دور الجيش بطُل في إيران ، إن الجيش لايمكن أن يصنع الحكم، إن الصدور العارية انتصرت على الجنود المدعمة من أمريكا. إن أمريكا اعتذرت لإيران بعد عشرين سنة من بذل كل الجهود لإسقاط إيمان المؤمنين من إيران، ولكن فشلت لأن الطاغوت لاسلطان له على الشعوب التي تحررت من الطاغوت، ليس بوسائل الطاغوت، وإنما بالإقناع وتحدي الطغيان بالإيمان بالعقيدة. كل الذين يؤمنون بالسيف، بالسيف يهلكون، الكل يهلكون وينجح النبيون الذين لايؤمنون بدور السيف في مجال الأفكار، لاإكراه في الدين، فهؤلاء الذين يطالبون بحقوق الإنسان من غير أن يفكروا في واجبات الإنسان لن ينجحوا، ومن لم يكفر بالعضلات والأسلحة في الإقناع لايكون آمن بالله ولا بالإنسان.
ينبغي على الإنسان أن يخلع الأوثان ليدخل إلى الإيمان إنه العروة الوثقى: ((لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها)) سنكشف السراط المستقيم رغماً أن المغضوب عليهم والضالين