عندما تغفو الشمس في حضن البحر.. تعم السكينة صفحة الأفق، ويشرق أمل جديد مع عودة العصافير لأعشاشها على أغصان أشجار الرصيف.
مع تلك اللحظات الهادئة كانت الثواني اللاهثة على صدر الساعة الجدارية تتسابق بين ذراعي الزمن، وتترنح على دقات السابعة مساءً لتطوي صفحة يوم عمل في مكتب ماهر في إحدى العواصم العربية.
لحظات من الشوق والقلق تناهت بهدوء ورفق إلى أعماقه عندما أغلق من خلفه الباب، ومضى بخطا وئيدة نحو سيارته المستكينة تحت الأغصان المتشابكة، كان عقله مشتتاً على غير عادته مما جعله بشكل لا إرادي ينسى أن يلقي نظرته المعتادة اتجاه مكتب زميلته في العمل لبنى.
بعد قليل تذكـر عيناها الساحرتان وفتنتها.. استدار ورجع من حيث أتى، ومـال برأســه قليـــلاً نحوها.. وراح يسترق النظــرات مـــن مسافة.. سرعان ما اختصرت ليكون الفاصل بينهما ضمة ياسمين على صدر مكتبها المستطيل.. أمسك بإحدى الزهرات.. استنشق شذى لبنى.. رحـب بهـا بإيماءة من رأسه.. ردت عليه التحية بابتسامة رقيقة لا تخلو من رضى.. من ثم عاد إلى سيارته وقد بدت على وجهه علامات السعادة.
حين التقى بها في المرة الأولى بالعمل.. وجد فيها الزميلة الفاضلة التي تتصف بمواظبتها ودقة وسرعة بديهتها.. دون إرادة منه تناغم مع مشاعرها الراقية، وسرعان ما تحولت مشاعره نحوها إلى إعجاب بل الانبهار، ليراها الأنثى المتكاملة التي تمثل له الحبيبة والصديقة والزميلة وحتى العشيقة، حيث كانت تمثل له الدهشة والفرحة والرعشة دفعة واحدة ولم تزل تنسيه عذابات البعد عن الوطن وقسوة الحرمان بحضنها الدافئ، وتحسسه الأمان بنظرة عينيها والحنان بلمسة يديها.
وبينما كان ماهر يقود سيارته أدار قرص تشغيل المسجل فراح صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح ويملأ فضاءها عذوبة وشجناً، حيث تناغمت الكلمات مع أحاسيسه، وبعد برهة من الزمن توقف أمام منزلة.. نظر إلى معصمه فوجد الساعة تشير إلى عشر دقائق قبل الثامنة.. فمازال لديه متسع من الوقت على موعد السهرة مع حبيبة قلبه والتي كاد أن ينسى إلقاء نظره إليها طوال اليوم.
نزع معطفه على عجالة، ومن ثم اتجه كي يأخذ قسطاً من الراحة.. حيث تناسب المياه وتعانق جسده الذي كان يتوق لهذا الماء الدافئ.. ارتدى ثوب الحمام واتجه صوب حجرته كي يكمل باقي ارتداء ملابسة والتي اختار أجملها لهذه السهرة، حينما وضع ربطة العنق حول رقبته انعكست صورة أخاه التوأم من الجهة المقابلة على المرآة، وتجلت أمامه.. تأملها بصمت محدثاً نفسه:
جئنا إلى الحياة ونحن متلاصقان بلحظة ولادتنا، وفي إنفعالتنا، وفي ابتساماتنا، وفي ملامحنا.. حتى دفاترنا المدرسية.. تنهد.. تقدم بخطوات وئيدة إلى سريرة، وضع رأسه بين راحتيه وردد:
كلما اشتاق إليك يا أخي انظر إلى ملامح وجهي في المرآة.. كي أراك من جديد.. أغمض أهدابه وأستغرق في ذكرياته التي أخذته إلى مرحلة الطفولة، حينما كانا يجلسان تحت جذع نخلة باسقة في فناء بيتهما ويتحدث فارس إلى العصافير ليرسلوا له البلح، حينها من حركة الرياح والعصافير تسقط بعض حبات الرطب، ليرد ماهر في شجون هكذا يا عصفور تستمع إليه وتعطيه وأنا لا.. حسناً سأعاقبك.. أمسك بحجر ورماه للأعلى ليتهاوى على جبين فارس..الذي ألمته شدة الضربة.. حيث جاء على أثر صراخه أباهما، وبقلب صغير نابض بالحب الكبير لم يقل فارس بأن الحجر سقط عليه بسبب ماهر.. إنما قال من فعل حركة العصافير.
كانا متفوقان في دراستهما، لكن فارس أكثر تفوقاًَ في الرياضيات.. أما ماهر فهو يميل إلى الجغرافيا والعبث برسم الخرائط ، ووالديهما يحرصان على اختيار نفس الملابس لهما والتي يتم انتقاءها حسب رغبتهما الخاصة، وشراؤها مهما ارتفع سعرها.
وعندما اقتربا من سن المراهقة.. ازدادت مشاكسات ماهر في الوقت الذي أصبح فيه فارس يميل للهدوء والرومانسية، وتأمل الطبيعة والتناغم مع سحرها الأمر الذي أدى به إلى التردد لبيت خالته بين الفينة والأخرى.. نظراً لأنها تسكن منطقة ريفية، وفي أحد الزيارات الاعتيادية، وعلى مقربة من بيت خالته، كانت فتاة مذهلة الملامح تقف على شرفة منزلها.. منذ النظرة العفوية الأولى.. أحس بشيءٌ من الانسجام يسري في أعماقه، لكنه سرعان ما واصل السير، وفي أثناء عودته وجدها صدفه تقف بنفس المكان.. تعلو شفاها بسمة، وبعد مضي ثلاثة أيام.. مر ماهر من الطريق بنفس الوقت فوجد الفتاة، التي اعتقدت بأنه نفس الشخص الذي ابتسمت له سابقاً.. بعد مرور أسبوعان تحدث فارس إلى ماهر عن تلك الفتاة في الوقت الذي رد عليه ماهر في غرور بأنه أيضاً قد شاهد فتاة رائعة الوصف تسكن نفس المنطقة وأنها طالعته بنظرة غير اعتيادية، صمت فارس وقال:
الفتاة التي رأيتها حتماً أجمل من التي قد رأيتها.
- ماهر.. لا .. أنا على يقين بأن التي رأيتها أجمل بكثير من تلك.
- فارس.. أتحداك لو كانت كذلك.
جاءت أمهما على صوت شدة انفعالهما وقالت:
ما بكما تتصارعان في اليوم عشرات المرات، لا يعقل أن يكون هذا في كل حين، يجب عليكما أن تكونا أكثر تروي وهدوء، بعد أقل من شهر ستفتح المدرسة أبوابها، ويجب أن تجلبا الكتب من الآن وتحضران للصف العاشر فبداية الثانوية مرحلة مصيرية تحدد التخصص والميول العلمي أو الأدبي.
- فارس.. حسناً يا أماه سأعمل على ذلك.
- ماهر.. لكن الوقت مازال مبكراً يا أمي.. دعينا نستمتع بالإجازة.
- ردت عليهما.. سأمنح هدية قيمة لمن يحضر للدراسة من الآن.
- رد ماهر.. أنا موافق.
في الوقت الذي دأب فيه فارس على تحضير ومتابعة الدراسة بنهم من بعض الكتب التي قد أخذها من جاراً لهم يكبره بسنة، كان ماهر يتردد بين الحين والحين على بيت خالته، وتتعمق النظرات بينه وبين الفتاة الشقراء، لتتطور إلى حديث عبر أسلاك الهاتف.. لكن وبسبب حادث وقع لها أصبحت خرساء تكتب على الورق وأختها هي التي تقرأ ما تكتبه، وتوالت الأيام على تعارفهما، وفي ذات مرة حدد اللقاء الأول على أن يكون في متنزه المدينة الكبير بشرط أن يكون فقط من بعيد، وجاء الموعد في العاشرة صباحاً، وارتدى ماهر أجمل ثيابه ومضى بخطوات رشيقة نحو اللقاء، وعندما وصل المكان وجد الفتاة وأختها تنتظران.. جلس على مقعد حجري أمام نافورة مياه قبالتهما، وبعد مرور ثلاث دقائق جاء فارس الذي كان يتتبع خطوات أخيه وجلس بجانبه، حينها رمقتهما الفتاة بنظرة عجيبة، وكتبت بعضاً من الكلمات.. التي قراءتها أختها.. "سنذهب الآن حالاً"، بينما نظر فارس إلى وجه ماهر وتأمله.. ابتسم من أعماقه، وقال له:
هيا بنا نرجع إلى البيت.
وعندما جاء المساء وهما على سطح البيت.. أطل البدر عليهما بوجه الحزين ، كان فارس يمسك بيده مجلة سياسية يحتوي غلاف صفحتها الأخيرة على بعضاً من صور الشهداء الفلسطينيين، تأملهم الواحد تلو الأخر.. الأمر الذي لفت انتباه ماهر وبادره بالسؤال:
- ما بك اليوم تدقق النظر في هذه الصفحة.
- فارس.. لست أدري لكنه ربما الفضول.
- ماهر.. لكنك تحملق بهم وكأنك تعرفهم كلهم.
- فارس.. هذا الشهيد يسكن بالقرب من منطقتنا.
- ماهر.. نعم صحيح .. رحمهم الله جميعاً.
فجأة تناهى صوت والدهما من أسفل يطلب منهما النزول إلى الطابق الأرضي.. نظراً لخطورة الوضع الأمني في ساعات الليل، لبى فارس نداء والده مسرعاً، في الوقت الذي بقى ماهر يستذكر الأحداث التي جرت له في صباح اليوم.
بشكل مباغت قطعت خطوات أبيه المسرعة خلوته العاطفية مع نفسه، وقال له:
- أنت دوماً أيها العنيد المشاكس لا تسمع الكلام.. حسناً كن لوحدك هنا حتى تمل.
بعد دقائق معدودة نزل ماهر إلى حيث أخيه.. الذي بدأ يغلب عليه النعاس وهمس له:
- هكذا فارس تتركني وحدي على السطح.
- فارس كلا يا ماهر ولكني نزلت بسبب دعوة أبي لنا.
- ماهر.. لكن الجو على السطح ساحراً.
- فارس غداً سيكون أكثر متعة وسحراً.
- ماهر .. ولكن..
- فارس.. أخي .. أخي أريد أن أنام.
- ماهر.. حسناً.
مع أولى ساعات الصباح.. طرقت الباب أمهما، فوجدت فارس مستيقظاً وماهر يغط في نوم عميق، جلست بجانبه وتحدثت إليه.. قبلته بحنان الأم على خده، واتجهت نحو ماهر كي تدعوه لطعام الإفطار بعد مرور فترة نهض من فراشه.. من ثم ذهب إلى المائدة وجلس بجانب فارس، نظرت إليهما أمهما.. وكأن في داخلها شيءٌ تريد أن تهمس به.. بعد الانتهاء من الإفطار، اتجه فارس نحو خزانة ملابسه واختار قميصاً بلون البنفسج لكي يلبسه على بنطلون أسود.. وقف أمام المرآة، وسرح شعره في الوقت الذي تأمله من بعيد ماهر بنظرات غير اعتيادية، وباغته..إلى أين أيها الأنيق..؟ أراك منذ ساعة وأنت تعيد هندامك وترتب نفسك.
- رد فارس سأذهب إلى بيت خالتي هل ترافقني؟
- ماهر.. طبعاً بلا شك.. أمهلني فقط عشر دقائق، وسأكون جاهزاً.
- فارس حسناً.
على جانبي الطريق.. كانت بعض صور الشهداء تزين الجدران، وكان فارس يتابعهما من بعيد وعندما وصلا بيت خالتهما لم تكن متواجدة الأمر الذي أدى بهما إلى عدم المكوث، ومن ثم آثر فارس العودة وطلب من أخيه مرافقته إلى الحقل المجاور كي يستمتع بسحر الطبيعة، وعند الانتهاء من الحقل تقدما بخطا عفوية نحو منطقة غير آمنة عسكرياً، حيث تصادفت مع مرورهما دورية عسكرية للعدو الصهيوني، رشقها فارس وعدد من الفتية ببعض الحجارة، ومن ثم شاهدا بعض الفتيان يلعبون الكرة بخوذة (جندي).. كانت قد وقعت أثناء المواجهة، تقاذف الجميع الخوذة كما الكرة، في الوقت الذي كان صاحبها وبقية خنازير وحدته يتابعون المشهد من بعيد في قهر بغيض.
همس ماهر في أذن أخيه.. هيا بنا نرجع إلى البيت فلقد تأخر الوقت.
- فارس.. حسناً سنرجع حالاً.
وفي العودة كانا جنباً إلى جنب، ماهر في جهة اليمين وفارس في جهة اليسار تكاد أكتفاهما تتلاصق وتتشبث وتتوحد في جسداً واحد، وفي حركة عفوية أصبح فارس في جهة اليمين وماهر في جهة اليسار.
بشكل مباغت.. أطل عليهما من إحدى الأزقة الفرعية جهة اليمين، ومن مسافة قصيرة عدداً من قتلة العدو الصهيوني، وصرخ قائدهم باللغة العبرية.. قفوا، وقبل أن يكمل كلمته اللعينة، كان وابلاً من الرصاص يفوق العشرة ينطلق بكل حقد وكراهية نحوهما حتى كادت بعض الرصاصات تلامس أهداب ماهر.
في الوقت نفسه ارتفع فارس مسافة للأعلى من شدة الرصاص وارتطم جسده الصغير بالأرض، ركض ماهر للخلف بشكل لا إرادي.
وتوقف في حيرة من أمره وكأن الكون يدور به.. استدار للخلف منادياً على أخاه لعله ينظر إليه.. لكن أقدام الخنازير البرية كانت تحرك جسده، لم يتمالك نفسه من هول المشهد وحاول الوصول إليه.. لكن بعض النسوة احتضنوه وأخذوه إلى أحد البيوت القريبة.
وهكذا أصابت فارس خمس رصاصات صعدت به إلى أعالي السماء، في الوقت نفسه أصابت ماهر رصاصة واحدة أبقته حياً إلى هذا اليوم، ولم يزل الجسد التوأم بالأرض والروح بالسماء.
على صخب رنة قصيرة، نظر ماهر إلى هاتفة المتحرك الذي استقبل رسالة نصية من لبنى، وإذا بدموع دافئة تنثال على خديه.. تساقطت.. تعانقت مع كلمات.. أينك مني اليوم يا حبيبي.