يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الجمعة: “يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون. وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين”.
في هذه الآيات الكريمة يحث الخالق سبحانه وتعالى عباده المؤمنين على الحرص على أداء صلاة الجمعة ويقول لهم: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، إذا نادى المنادي لأجل الصلاة في يوم الجمعة فامضوا إليها بجد وإخلاص نية وحرص على الانتفاع بما تسمعونه من خطبة الجمعة التي هي لون من ألوان ذكر الله تعالى وطاعته.
والأمر في قوله سبحانه “فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع” للوجوب، لأن الأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد له صارف عن ذلك، ولا صارف له هنا، والمراد من البيع هنا كما يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسيره لهذه الآيات المعاملة بجميع أنواعها، فهو يعم البيع والشراء وسائر أنواع المعاملات.
والمعنى المراد هنا: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاخرجوا إليها بحرص وسكينة ووقار واتركوا المعاملات الدنيوية من بيع وشراء وتجارة وغيرها.. وإنما قال سبحانه: “وذروا البيع” لأنه أهم أنواع المعاملات فهو من باب التعبير عن الشيء بأهم أجزائه.
طلب الرزق
ثم بين سبحانه جانبا من مظاهر تيسيره عليهم في تشريعاته فقال: “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله”.
أي فإذا فرغتم من أداء الصلاة وأقمتموها على أكمل وجه، فانتشروا في الأرض وامشوا في مناكبها لأداء أعمالكم التي كنتم قد تركتموها عند النداء للصلاة، واطلبوا الربح واكتساب المال والرزق من فضل الله تعالى، ومن فيض إنعامه، والأمر هنا للإباحة.. أي أن الانتشار في الأرض بعد الصلاة لطلب الرزق ليس واجبا عليهم، إذ طلب الرزق قد يكون في هذا الوقت وقد يكون في غيره.
والمقصود من الآية إنما هو تنبيه الناس إلى أن لهم في غير وقت الصلاة سعة من الزمن في طلب الرزق، وفي الاشتغال بالأمور الدنيوية، فعليهم أن يسعوا إلى ذكر الله إذا ما نودي للصلاة من يوم الجمعة وأن يحرصوا على ذلك حرصا شديدا مصحوبا بالنية الطيبة، وبالهيئة الحسنة، وبالمضي المبكر إلى المسجد.
وقوله سبحانه: “واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون” تحذير لهم من الانتشار في الأرض لمصالحهم الدنيوية، دون أن يعطوا الله تعالى وعبادته ما تستحقه من عناية ومواظبة.. أي إذا قضيت الصلاة، فانتشروا في الأرض لتحصيل معاشكم دون أن يشغلكم ذلك عن الإكثار من ذكر الله تعالى في كل أحوالكم، فإن الفلاح كل الفلاح في تقديم ما يتعلق بأمور الدين على ما يتعلق بأمور الدنيا، وفي تفضيل ما يبقى على ما يفنى.
إرشاد وتأنيب
ثم ختم سبحانه وتعالى السورة الكريمة بعقاب يحمل في طياته ثوب التأديب والإرشاد والتأنيب لمن آثر مطالب الدنيا على مطالب الآخرة فقال تعالى: “وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما”.
قال الإمام ابن كثير: يعاتب الله تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف يوم الجمعة عن الخطبة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال: “وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما”.
فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من جابر قال: قدمت عير أي تجارة المدينة ورسول الله يخطب يوم الجمعة، فخرج الناس وبقى اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية.. وفي رواية أن الذين بقوا في المسجد كانوا أربعين، وأن العير كانت لعبد الرحمن بن عوف وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر.
وقوله سبحانه: “قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين” إرشاد لهم إلى ما هو الأنفع والأبقى والأكرم لهم.