المطر يهطل بغزارة هذه الليلة، والرياح تلعب بين الأفنان تعزف على أوتارها أنشودة العواصف، والليل غدا حالكاً أكثر بعد أن أردت يد الرياح العابثة أسلاك التيار الكهربائي أرضاً، والوحدة متعبة ومخيفة في مثل هذه المواقف ، حاول أحمد النوم مجدداً شدّ الغطاء فوق رأسه ودثر أحلامه الباردة برودة هذه الليلة.
أنزل الغطاء ثانية وكأن النوم أصبح ضرباً من ضروب المستحيل، أشعل شمعةً من جديد صوت المطر العازف على قسطل المدفأة في الخارج أشعره بالبرد أكثر ، فتدارك المدفأة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة لتتوهج من جديد . أشعل سيجارة وراح ينفث دخانها فوق رأسه دوائر,صامتاً يسترجع المواقف الدافئة التي مرّ بها، يتذكر وجه حبيبته القمر الذي أكثر ما يفتقده في هذه الليلة.
وباتت الذكريات تنهش قلبه,قلَّب الأوراق كلها وفكّر بكل الأحلام المؤجلة وبكل ما يقف عائقاً بينه وبين حبيبته ولكنه لم يصل إلى جديد، ربما لأنه فكّر آلاف المرات ولم يتوصل من قبل إلا لنتيجة واحدة وهي الفراق والاستسلام للقدر.
وعلى أي حال فهو لم يمسك خيوط أحلامه ليحلّ عقدتها في هذه الليلة إنما أراد أن يغيّر الجو الذي فرضه عليه الطقس البارد والرياح الهائجة، تفقّد علبة تبغه فوجدها فارغة والشمعة الأخيرة شارفت على الانتهاء، والرياح ازدادت قوة وعنادا, أصبح كل ما حوله يأمره بالاستسلام لشبح النوم..تقلّب في فراشه مراراً تغطى تارة وتعرى أخرى، ولكنه استيقظ مذعوراً فهو لا يعلم كيف تغلب على النوم وصرعه فكيف يستيقظ و في مثل هذه الساعة، وليته أفاق مختاراً إنما أيقظه كابوسٌ كتم على أنفاسه وجثم على صدره... "أستغفر الله العظيم ما هذه الليلة الملعونة ومتى يتنفس هذا الصباح"، ردّد هذه الكلماتُ بصوت متحشرج متقطع الحروف ينخفض ويعلو وكأنه معقود بأنفاسه اللاهثة.
تذكر حلمه المزعج الذي أرعبه, تذكّر تفاصيله كاملة بكل حركاته وهمساته حتى لون ثيابه، وتلك اليد الناعمة كشال من حرير التي داعبتها يداه، والنسيمات المبللة بالعبير التي كانت تحمل أصداء الكلمات الجميلة التي تبادلا حروفها ومعانيها، والنظرات الحالمة التي نقلته على أرجوحة فوق البساط السندسي الأخضر والشجر المتعانق الأفنان، كان منظراً بديعاً لم يرَ مثله بالحلم. كان كل شيء رائعاً إلا أن النهاية بدلت الحلم الرومانسي إلى كابوس, فبعدما جلس إلى جذع شجرة هرمه، وإذ بحبيبته تدوس على كتفه الأيسر وتصعد الشجرة لتتدلى أفعى فاحمه أمام وجهه تفتح فمها الذي أصبح يتسع لرأسه وتهم بابتلاعه, عندها صاح صوتاً اهتزت له الأفنان واستيقظ مذعوراً يتمتم بكل ما يحفظ من آيات قرآنية .
لم يحاول النوم مجدداً لأنه يعلم أن النوم محاولة يائسة, تذكّر جدته وطريقة تفسيرها للأحلام حيث تصور الأفعى بالعدو اللدود للإنسان وكانت تستعيذ كثيراً من أي حلم يروى لها تتخلله كلمة أفعى أو ثعبان. إلى أن ماتت من لدغة أفعى بينما كانت تقيل تحت شجرة الزيتون في صحن الدار، تلك الشجرة ذاتها التي رآها في الحلم وجلس إلى جذعها، وازدادت مخاوفه, أصبحت أوصاله ترتعد برداً وخوفاً وانتقلت آلامه النفسية إلى أعضاء جسده أصبح يشعر بالألم في كل جارحة من جوارحه، والمطر في الخارج يزداد غزارة والرياح تتلاعب بكل ما تمر به، فيسمع سمفونية مزعجة وكأنه عرس جان.
وما هي إلا لحظات حتى سمع أذان الفجر خافتاً من المسجد القريب من بيته، فارتاح قليلاً وشعر أن لهذا الأذان وقعٌ خاص لم يشعر به من قبل. وعلم أن ثمة إنسان مستيقظ يشاركه طقوس هذه الليلة . عندها توضأ وصلى الفجر على غير عادته وقرأ ما تيسر له من سورة الواقعة، ثم خلد للنوم بعد صراع مع الخوف والظلام وكل الحكايات المخيفة العالقة في ذاكرته.
وفي الصباح استيقظ على صوت زقزقة العصافير والشمس التي تطل خجولة من بين الغيوم التي جرت أذيالها مودعة ليلة مفعمة بالصراعات..عندها تذكّر جدته ثانية لأنها كانت تقول إن العصافير لا تزقزق كثيراً إلا عندما ترى أفعى فهي تُنذر الإنسان كي يقتلها، ولم يتذكر من حلم ليلته سوى الأفعى ، وفجأة لمح من بعيد خيال طفلة صغيرة تركض لاهثة نحوه وعندما اقتربت أكثر عرف أنها سلمى شقيقة حبيبته والبريد الذي كان يودعه رسائله لتصل آمنة إلى قلب حبيبته...فقالت له بكلمات مضطربة بعد أن استندت على جذع الزيتون.. أختي تهديك السلام وتطلب منك أن تسامحها وتنساها فالليلة زفافها على ابن عمي الذي أنهى خدمته العسكرية .
ابتسم ابتسامة صفراوية وقرأ الفاتحة على روح جدته التي تذكرها كثيراً في هذه الليلة وشعر برعشة كهربائية تسري في جسده..اتجه نحو غرفته حمل حقيبته المركونة خلف الباب وانتعل حذاءه الجديد ، وحمل صحن الشمع وعلبة السجائر الفارغة و ألقى بهم في الخارج عند شجرة الزيتون وأغلق الباب بإحكام وجرّ خطواته الثقيلة ومشى باتجاه التلة الخضراء البعيدة التي تعانق الأفق والغيوم، نظََر نظرةَ مودعٍٍ إلى البيت وشيّع ذكرياته وتابع خطواته باتجاه المجهول.